كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيهات:
الأول: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: {قالَ عَذَابِي} الخ، جواب لموسى عليه السلام، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب أولًا بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم، برًّ أو فاجرًا، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلًا. ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا لمن أساء، فعل ماض من الإساءة، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم، وثانيًا إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات، والمتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذا الشرائط، كتب له ذلك، ولا يقال- على هذا- كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنا نقول الإتباع أعم من الإتباع بالقوة، وذلك بالإيمان به إجمالًا، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته، وإما بالفعل لمن لحق زمان بعثته.
وفيه تبشير لموسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف له بشأنه وإعلام بشأنه، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه. وعليه فيكون قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} بدلًا من الموصول الأول، بدل الكل، أو منصوب على المدح، أو مرفوع عليه، أي: أعني الذين، أو هم الذين.
وقال بعضهم: إن الجواب موسى ينتهي إلي قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} وما بعده مستأنف، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء، كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم.
ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقًا، عليه فيكون قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} مبتدأ خبره: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل، بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي، كانوا هم المفلحين.
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: {قالَ عَذاَبِي} ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له، صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم.
وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين، ما لا يخفى.
الثاني: تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان- هذا ما ذكر في اللغة- وعني أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة، كما قال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} بمعنى الجنة، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل. والله أعلم.
وقال أبو المنصور: ما من أحد مسلم وكافر، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظ للكافر فيها، وذلك قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: معصية الله، والخلاف له {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة} جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لاحظ للكافر فيها.
فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة، ويحتمل قوله- والله أعلم-: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ} أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته. انتهى.
الثالث: إنما أفرد الزكاة بالذكر، ومع دخولها في التقوى قبل، لعلوها وشرفها، فإنها عنوان الهداية، ولأنها كانت أشق عليهم، فذكرها لئلا يفرطوا فيها.
الرابع: كونه صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ، أمر مقرر مشهور. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور، أو أنه لم يكتب، وإنما أسند إليه مجازًا، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة؟- انظر في فتح الباري تفصيله-.
والأمي نسبة إلى أمة العرب، لأن الغالب عليهم كان ذلك، كما في الحديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»، وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك، أو إلى أُمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها.
وقيل: إنه منسوب إلى الأم- بفتح الهمزة- بمعنى القصد، لأنه المقصود، وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب {الأمي}- بفتح الهمزة-، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضًا، وإنما وصفه تعالى به تنبيهًا على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب، لأنها معجزة له، كما قال البوصيري.
كفَاكَ بالعلمِ في الأمِّي مُعْجزةَ كما أن صفة التكبر لله مادحة، وفي غيره ذامة، كذا في العناية.
الخامس: في قوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام، بنبوته صلى الله عليه وسلم.
قال الماوردي في إعلام النبوة في الباب الخمس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى عونًا على أوامره، وإغناءًا عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، بما تقدمه من بشائره، وتبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرًا ونذيرًا، واللاحق مصدقًا وظهيرًا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم إستمرار الحق.
وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونًا للرسول، وحثًا على القبول.
فمنهم من عيّنه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وإنتشاره.
وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جليًا بعد الإحتمال ويقينًا بعد الإرتياب، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم.
وجاء في إظهار الحق ما نصه: إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم، كثيرة إلى الآن أيضًا، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولًا طريق إخبار النبي المتقدم، عن النبي المتأخر، على ما عرفت في الأمر الثاني- يعني في كلامه- ثم نظر ثانيًا بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة.
وجاء في منية الأذكياء في قصص الأنبياء ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفًا رفع كل احتمال، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته. غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمعه- يعني من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعًا، لقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف. لكن من أمد غير بعيد، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات، ليبعد صدقها على النبي عليه الصلاة والسلام، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع، اختلافًا لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع، وتيسر المقابلة بينها، وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم:
فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا:
11- وقال لها ملاكُ الربُ أنتِ حُبلى فتلدين إبنًا، وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك.
12- وإن يكون إنسانًا وحشيًا، يده علي كل واحد ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن.
هذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا بجده إسماعيل، لأن إسماعيل عليه السلام، لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع، لا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص، بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أُخرج من وطنهما مكرهين، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدانت له الملوك، خضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل بهم فكان ذكر إسماعيل مقصودًا به ولده.
كما أن في مواضع كثيرة من التوراة، ذكر يعقوب، والمقصود بالذكر ولد يعقوب.
فمن ذلك قوله في السفر الخامس: يا إسرائيلُ! ألا تخشى الله ربَّك، وتسلك في سَبِيِلهِ وتعمل له؟
فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم، وكذلك قوله لقوم موسى: اسمع إسرائيل، ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكثر وتنعم. ونظائره كثيرة.
فظهر أنه قد يذكر إسم الأب، ويراد الإبن مجازًا، بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.
ومنها: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثينة هكذا:
1- وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته.
2- فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سَعِيرَ، وتلألأ من جبل فَارَان، وأتى من ربواتِ القُدسِ، وعن يمنيه نار شريعةٍ لهم.
ولا غموض بأن مجئ الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا- هكذا يفسره أهل الكتاب- والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سُعَيْر عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سُعَيْر بقرية تدعى ناصرة، وإسم النصارى مأخوذ منها.
وإستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران، وفاران هي مكة، ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب.
ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا:
20- وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامِيَ قوس.
21- وسكن في برِّيَّة فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر.
ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، وفيها مات، وبها دفن، وهذا البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر.
فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد، وأنتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها، كما يقتضيه الإستعلان المذكور في البشارة.
ومنها: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا:
17- قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا.
18- أُقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به.
19- ويكون أن الْإِنْسَاْن الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.
هذا البشارة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعًا، لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، بدليل ما ذكر في التوارة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته، ينصب المضارب.
وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام، عن بعد بعيد، إخوةَ كما دعى في القرآن هود وصالح، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام.
وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين:
14- وأرسل موسى رسلًا من قَادشَ إلى ملك أدُومَ: وهكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا- مع أنهما أعمام على بعد بعيد.
وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل، وإلَّا لقال: وسوف أقيم لهم نبيًا مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخبارًا بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم}، وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى، فهو باطل من وجوه:
1- أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل.
2- أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية الإصحاح الرابع والعشرون.
10- ولم يقم بعدُ نبيُّ في بني إسرائيل مثلُ موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه.
ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى.
3- أن يوشع عليه السلام كان حاضرًا هناك، وقد أشير بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر.
38- يَشُوعُ بن نونٍ الواقف أمامك هو يدخل هناك، شدَّده لأنه هو يقسمها لإسرائيل.
فأي مقتض للرمز والتلويح، بعد هذا التصريح؟ وأي موجب لإدخال سوف الدالة على الإستقبال على فعل حاصل في الحال؟